الفرق بين المراجعتين لصفحة: «تاريخ التقانة الحيوية»
(أنشأ الصفحة ب' {{فضل الكاتب الرئيسي|د. زيد الهبري}} تاريخ التقانة الحيوية File:The Brewer designed and engraved in the Sixteenth. Centu...') |
لا ملخص تعديل |
||
سطر 1: | سطر 1: | ||
{{فضل الكاتب الرئيسي|د. زيد الهبري}} | {{فضل الكاتب الرئيسي|د. زيد الهبري}} | ||
تاريخ التقانة الحيوية | تاريخ التقانة الحيوية | ||
[[File:The Brewer designed and engraved in the Sixteenth. Century by J Amman.png| | [[File:The Brewer designed and engraved in the Sixteenth. Century by J Amman.png|left|thumb|250 px|left|[[Brewing]] was an early example of biotechnology]] | ||
التقانة الحيوية عبارة عن تطبيق المبادئ العلمية والهندسية في مُعالجة المواد من خلال عوامل بيولوجية للحصول على منتجات وتقديم خدمات. حافظت التقانة الحيوية منذ بدئها على علاقة وثيقة مع المُجتمع، ورغم ارتباطها الآن غالبًا بتطوير الأدوية، إلا أنّها ارتبطت تاريخيًا أساسًا بالغذاء، بمُعالجتها لمشاكل مُختلفة مثل سوء التغذية والمَجاعة. يبدأ تاريخ التقانة الحيوية بالتقانة التخمّرية zymotechnology، والتي شرعت بالاهتمام بطرق تخمير الجِعة (البيرة). لكن مع قدوم الحرب العالمية الأول اتسعت التقانة التخمّرية لتواجه قضايا صناعية أكبر، ودفعت إمكانية التخمير الصناعي لنشوء التقانة الحيوية، إلا أنّ مشروعي بروتين الخلية المفردة والغازوحول gasohol فشلا في الاستمرار بسبب مشاكلٍ مختلفة من بينها الرفض الشعبي، وتغيّر المشهد الاقتصادي، وانزياح القوى السياسية. | التقانة الحيوية عبارة عن تطبيق المبادئ العلمية والهندسية في مُعالجة المواد من خلال عوامل بيولوجية للحصول على منتجات وتقديم خدمات. حافظت التقانة الحيوية منذ بدئها على علاقة وثيقة مع المُجتمع، ورغم ارتباطها الآن غالبًا بتطوير الأدوية، إلا أنّها ارتبطت تاريخيًا أساسًا بالغذاء، بمُعالجتها لمشاكل مُختلفة مثل سوء التغذية والمَجاعة. يبدأ تاريخ التقانة الحيوية بالتقانة التخمّرية zymotechnology، والتي شرعت بالاهتمام بطرق تخمير الجِعة (البيرة). لكن مع قدوم الحرب العالمية الأول اتسعت التقانة التخمّرية لتواجه قضايا صناعية أكبر، ودفعت إمكانية التخمير الصناعي لنشوء التقانة الحيوية، إلا أنّ مشروعي بروتين الخلية المفردة والغازوحول gasohol فشلا في الاستمرار بسبب مشاكلٍ مختلفة من بينها الرفض الشعبي، وتغيّر المشهد الاقتصادي، وانزياح القوى السياسية. | ||
مراجعة 07:53، 11 مايو 2016
د. زيد الهبري |
المساهمة الرئيسية في هذا المقال |
تاريخ التقانة الحيوية
التقانة الحيوية عبارة عن تطبيق المبادئ العلمية والهندسية في مُعالجة المواد من خلال عوامل بيولوجية للحصول على منتجات وتقديم خدمات. حافظت التقانة الحيوية منذ بدئها على علاقة وثيقة مع المُجتمع، ورغم ارتباطها الآن غالبًا بتطوير الأدوية، إلا أنّها ارتبطت تاريخيًا أساسًا بالغذاء، بمُعالجتها لمشاكل مُختلفة مثل سوء التغذية والمَجاعة. يبدأ تاريخ التقانة الحيوية بالتقانة التخمّرية zymotechnology، والتي شرعت بالاهتمام بطرق تخمير الجِعة (البيرة). لكن مع قدوم الحرب العالمية الأول اتسعت التقانة التخمّرية لتواجه قضايا صناعية أكبر، ودفعت إمكانية التخمير الصناعي لنشوء التقانة الحيوية، إلا أنّ مشروعي بروتين الخلية المفردة والغازوحول gasohol فشلا في الاستمرار بسبب مشاكلٍ مختلفة من بينها الرفض الشعبي، وتغيّر المشهد الاقتصادي، وانزياح القوى السياسية.
إلا أنّ ظهور الهندسة الوِراثية دفع بالتقانة الحيوية لطليعة العلم في المُجتمع، وعقَبَ ذلك العلاقة الوثيقة بين المُجتمع العلمي، والعامّة، والحُكومة. كما اشتهرت تلك المُناقشات في مُؤتمر أسيلومار عام 1975، حيث كان جوشوا ليدربرغ المؤيّد الصريح الأكبر لهذا المجال الجديد في التقانة الحيوية، وباكرًا في عام 1978، مع تطوير الإنسولين البشري الصنعي، أصبحت ادّعاءات ليدربرغ صحيحة، وازدهرت صناعة التقانة الحيوية سريعًا، وأصبح كلّ تقدّم علمي جديد حدثًا إعلاميًا مُصمّمًا لسلب دعم العامّة، وفي ثمانينيّات القرن الماضي، أضحت التقانة الحيوية صناعة حقيقية واعدة، ففي عام 1988، صودق على خمسة بروتينات فقط من خلايا مُهندسة وراثيًا كأدوية من قبل إدارة الأغذية والأدوية FDA في الولايات المتّحدة، إلا أن هذا العدد انطلق صعودًا لأكثر من 125 بنهاية التسعينيّات.
لا يزال مجال الهندسة الوراثية موضوعًا للنقاش الحاد في مُجتمع اليوم مع حلول المُعالجة الجينية، وأبحاث الخلايا الجذعية، والتنسيل (الاستنساخ)، والأغذية المُعدّلة وراثيًا. وكما يبدو طبيعيًا الآن ربط الأدوية الصيدلانية كحلول للمشاكل الصحية والمُجتمعية، بدأت علاقة التقانة الحيوية هذه في خدمة حاجات المُجتمع منذ قرونٍ مضت.
منشأ التقانة الحيوية
نشأت التقانة الحيوية من مجال التقانة التخمرية أو كيمياء التخمّر، والتي بدأت كبحث عن فهم أفضل للتخمّر الصناعي، خصيصًا البيرة. كانت البيرة سلعة هامة صناعيًا وليس فقط مُجتمعيًا، ففي نهاية القرن التاسع عشر في ألمانيا، ساهم تخمير البيرة كمنتج وطني بقدر مُساهمة الفولاذ، وثبت أنّ الضرائب على الكحول تمثّل مصادرًا مُعتبرة كدخل للحكومة، وفي ستينيّات القرن التاسع عشر، أصحبت المُؤسسات والشركات الاستشارية الرابحة مُكرّسة لتقنية التخمير، وأشهرها مؤسسة كالسبيرغ الخاصة، التي أسست عام 1875، التي وظّفت إيميل كريستيان هانسل، الذي ابتكر عملية الخميرة النقية للإنتاج الموثوق للبيرة المُتسقة، بينما كانت الشركات الاستشارية الخاصة أقل شهرة والتي كانت تقدّم المشورة في صناعة التخمير، ومن بينها مؤسسة زيموتيكنيك، التي أسسها في شيكاغو الكيميائي جون إوالد زيبل المولود في ألمانيا.
اتسعت تقانة التخمير ووصلت لذروتها في الحرب العالمية الأولى كاستجابة للحاجات الصناعية لدعم الحرب، حيث نمّى ماكس ديلبروك الخميرة بمقياس هائل خلال الحرب لتوفير 60 بالمئة من حاجات إطعام الحيوانات في ألمانيا. كما عوّضت المُركّبات من منتج تخمير آخر (حمض اللاكتيك) النقص في السائل الهيدروليكي الغليسيرول. وفي الجانب الحليف استعمل الكيميائي الروسي شاييم وايزمان النشاء للتخلص من نقص الأسيتون في بريطانيا، وهو المادة الخام الرئيسية في الكوردايت (مادة شديدة الانفجار)، عبر تخمير الذرة للحصول على الأسيتون. كانت الإمكانيات الصناعية للتخمير تتفوّق على تخمير البيرة المنزلية التقليدية، وأفسحت "تقانة التخمير" الطريق لبروز "التقانة الحيوية".
مع انتشار نقص الغذاء وتقلص الموارد، حلم البعض بحلول صناعية جديدة. ابتكر الهنغاري كارولي إريكي كلمة "التقانة الحيوية" في هنغاريا خلال عام 1919 لوصف تقانة ترتكز على تحويل المواد الخام إلى مُنتجات أكثر فائدة، وقد بنى مذبحًا لألف خنزير وأيضًا مزرعة تسمين بمساحة كافية لـ50,000 خنزير، يُربّى فيها أكثر من 100,000 خنزير في العام. كان المشروع هائلًا، واعتبر من أكبرها وأكثرها ربحًا في صناعة اللحوم والدهون في العالم. في كتاب بعنوان "التقانة الحيوية Biotechnologie" طوّر إريكي موضوعًا سيعاد ذكره في القرن العشرين: يُمكن للتقانة الحيوية أن تقدّم حلولًا للأزمات المُجتمعية، مثل نقص الغذاء والطاقة. أشار مُصطلح "التقانة الحيوية" بالنسبة لإريكي للعملية التي يُمكنها تطوير المواد الخام بيولوجيًا إلى منتجات مُفيدة مُجتمعيًا.
انتشر هذا الشعار سريعًا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث دخل مُصطلح "التقانة الحيوية" القواميس الألمانية وتبنته الشركات الاستشارية الخاصة المُتعطشة للمشاريع وكذلك في الولايات المُتحدة. مثلًا في شيكاغو حثّ قانون منع الكحول في نهاية الحرب العالمية الأولى الصناعات البيولوجية لخلق فرص لمُنتجات تخمير جديدة، خصيصًا كسوق للمشروبات غير الكحولية. انفصل إيميل سيبل، ابن مؤسس مؤسسة زيموتيك، عن شركة أبيه ليؤسس "ديوان التقانة الحيوية Bureau of Biotechnology"، والذي قدّم الخبرات خصيصًا في المشروبات غير الكحولية المُخمّرة.
كان المُعتقد بإمكانية تحقيق حاجات المُجتمع الصناعي بتخمير الفضلات الزراعية مكوّنًا هامًا في "حركة الكيمياء العضوية chemurgic movement"، حيث ولّدت العمليات المرتكزة على التخمير مُنتجات دائمة الازدهار، وكان البنسيلين في أربعينيّات القرن العشرين أعظمها، فبينما كان قد اكتشف في إنجلترا، إلا أنّه حضّر صناعيًا في الولايات المُتحدة باستعمال عملية تخمير عميق طوّرت بالأصل في بيوريا، وفي ولاية إلينوي. نتيجة للأرباح الهائلة والتوقعات الشعبية التي أحدثها البنسيلين، برزت نقلة جذرية في مكانة الصناعة الصيدلانية. استعمل الأطباء العبارة "الدواء المُعجزة"، واقترح المؤرّخ لاستعماله في زمن الحرب ديفيد آدامز أنّ البنسيلين مثّل للشعب الصحّة المُثلى التي كانت إلى جانب السيارة ومنزل الأحلام في الإعلام الأمريكي في زمن الحرب. ببداية خمسينيّات القرن العشرين، أصبحت تقانة التخمير أيضًا متطوّرة بما يكفي لإنتاج السترويدات بمقاييس مُعتبرة صناعيًا، وكان مما هون هام خصيصًا تحسين الاصطناع النصفي للكورتيزون الذي بسّط عملية الاصطناع من 31 خطوة إلى 11 خطوة. قُدّر بأنّ هذا التقدّم قد خفّض تكلفة الدواء بنسبة 70%، مما جعل الدواء رخيصًا ومتوفرًا. لا تزال التقانة الحيوية اليوم تلعب دورًا مركزيًا في إنتاج هذه المركبات ومن المُرجّح أنّها ستستمر بذلك لسنوات أخرى.
كان يُنظر للبنسيلين على أنّه الدواء المُعجزة الذي جلب مرابحًا هائلة ورفع آمال الشعب. (كتب في الإعلان في الصورة: يُشفي البنسيلين داء السيلان في 4 ساعات، راجع طبيبك اليوم.)
مشروعَي بروتين الخلية المُفردة والغازوحول
ظهرت آمال أكبر بخصوص التقانة الحيوية خلال ستينيّات القرن العشرين مع عملية تقوم بتنمية بروتين خلية مُفردة. عندما هددت ما تسمى بفجوة البروتين بإحداث جوع عالمي، بدى إنتاج الطعام محليًا بتنميته من الفضلات كحل للأزمة، فقد أسرت إمكانية تنمية المُتعضيات الدقيقة على النفط مُخيّلة العلماء، وصنّاع السياسة، والتجارة، حيث قامرت شركات كبرى مثل بريتش بيتروليوم (BP) بمستقبلها من أجله، وبنت شركة BP عام 1962 مُنشأة تجريبية في كاب دي لافيرا في جنوب فرنسا للدعاية لمنتجها توبرينا Toprina. قام ألفريد شامبانات بالعمل البحثي المبدئي في لافيرا، وبدأ تشييد المُنشأة التجريبية الثانية لـBP عام 1963 في مصفاة غرينغماوث للنفط في بريطانيا.
مع عدم توفّر مُصطلح جيّد القبول لوصف الأغذية الجديدة، ابتكر مُصطلح "بروتين الخلية المُفردة single-cell protein (SCP)" عام 1966 في معهد MIT كاسم مقبول ومشوّق جديد، لتجنّب الدلالة الضمنية غير المُزعجة حول الميكروبات أو البكتيريا.
أصبحت فكرة "الغذاء من النفط" شائعة جدًا بحلول سبعينيّات القرن العشرين، عندما بنيت مُنشآت لتنمية الخميرة التي تغذى على ن-بارافينات في عدد من الدول، وكان السوفييت متحمّسين خصيصًا، مع افتتاحهم مُنشآت BVK (belkovo-vitaminny kontsentrat، أي مُكَثّف البروتين والفيتامين) الضخمة إلى جوار مصافي النفط في بلدتي كوستوفو (1973) وكيريشي (1974).
لكن في نهاية السبعينيّات، تغيّرت البيئة الثقافية بالكامل، مع اتخاذ الاهتمام بالـSCP مكانته مقابل الاقتصاد المُنزاح والمشهد الثقافي. أولًا ارتفع سعر النفط بصورة كارثية عام 1974، وبذلك كانت كلفته لكل برميل أكبر خمس مرات عما كان عليه قبل سنتين. ثانيًا، رغم استمرار الجوع حول العالم، بدأ الطلب المُتوقّع بالانزياح من البشر إلى الحيوانات. بدأ البرنامج بالرؤية بتنشئة الغذاء لشعوب العالم الثالث، لكن طرح المُنتج عوضًا عن ذلك كطعام للحيوانات للعالم المُتطوّر. جعل الطلب المُتزايد على علف الحيوانات من السوق يبدو أكثر جذبًا اقتصاديًا، إلا أن السقوط النهائي لمشروع الـSCP جاء نتيجة للرفض الشعبي.
أحدث ذلك ضجة خصيصًا في اليابان، حيثما اقترب الإنتاج كثيرًا للإثمار، بمقابل التحمّس للإبداع والاهتمام التقليدي بالأغذية المُنتجة بالكائنات الدقيقة، إلا أن اليابانيين كانوا أوّل من حظر إنتاج بروتينات الخلية المُفردة. لم يكن اليابانيين بالنهاية قادرين على فصل فكرة الأغذية "الطبيعية" الجديدة عن المعنى الضمني البعيد جدًا عن الطبيعي المُتعلّق بالنفط، وطرحت هذه المُناقشات ضدّ خلفية من الارتياب من الصناعة الثقيلة والتي عبّر فيها عن القلق حول الآثار الضئيلة من البترول. لذلك دفع الرفض الشعبي للمنتج غير الطبيعي نحو نهاية مشروع SCP كمحاولة لحل مشكلة الجوع العالمي. أيضًا في اتّحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية USSR عام 1989، دفع القلق البيئي الشعبي بالحكومة لتقرّر بغلق (أو التحوّل إلى تقانات أخرى) جميع مُنشئات تغذية الخميرة بالبارافين الثمانية التي امتلكتها الوزارة السوفييتية للصناعة الميكروبيولوجية في ذلك الحين.
قدّمت التقانة الحيوية في نهاية السبعينيّات حلًا ممكنًا آخر للأزمة المجتمعية. رفع تصاعد سعر النفط عام 1974 من تكلفة طاقة العالم الغربي لعشرة أضعاف، واستجابة لذلك شجّعت حكومة الولايات المتحدة على إنتاج الغازوحول gasohol، عبارة عن غازولين مع 10 بالمئة من الكحول المُضاف، كحل لأزمة الطاقة. وعندما أرسل الاتحاد السوفييتي عام 1979 القوّات إلى أفغانستان، قطعت حكومة كارتر مؤنها للإنتاج الزراعي ردًّا بالمثل، مما خلق فائضًا من الزراعة في الولايات المتحدة، ونتيجة لهذا بدى تخمير الفائض الزراعي لتصنيع الوقود حلًا اقتصاديًا من أجل تخزين النفط المُهدد بالحرب الإيرانية العراقية. لكن قبل اتخاذ هذا المنحى الجديد، تغيّرت الريح السياسية مرة أخرى: استلمت حكومة ريغان السلطة في يناير 1981 ومع تراجع أسعار النفط في الثمانينيّات، أوقفت الحكومة الدعم لصناعة الغازوحول قبل أن تولد.
بدت التقانة الحيوية حلًا لمشاكل مجتمعية كبرى، من بينها الجوع العالمي وأزمة الطاقة. كان هنالك حاجة لخطوات جذرية في الستينيّات من أجل أزمة المجاعة العالمية، وبدت التقانة الحيوية كإجابة لهذه القضية، لكن ثبت أنّ تلك الحلول كانت مكلفة جدًا وغير مقبولة مجتمعيًا، وصرف النظر عن حل الجوع العالمي عبر الـSCP. جاء عقب أزمة الغذاء في السبعينيّات قدوم أزمة الطاقة، وبدت هنا أيضًا التقانة الحيوية كحل لهذه المشكلة، لكن مرّة أخرى، ثبتت التكاليف بأنّها مانعة لهذا مع انهيار أسعار النفط في الثمانينيّات. بالتالي لم تكن عمليًا مقتضيات التقانة الحيوية مُدركة بالكامل، لكن سيتغيّر هذا قريبًا مع نهوض الهندسة الوراثية.
الهندسة الوراثية
بلغ تاريخ التقانة الحيوية أوجه مع ولادة الهندسة الوراثية، وكان هنالك حدثين رئيسين برزا للوجود كسبقين علميين معلنين بداية عصر سيوحّد علم الجينات مع التقانة الحيوية. أحد هذين الحدثين كان عام 1953 باكتشاف واتسون وكريك بنية الدنا DNA، والآخر باكتشاف كوهين وبوير عام 1973 لتقنية الدنا المأشوب والتي يمكن بها قطع قسم من الدنا من البلازميد في خلية بكتيرية E. coli ونقله إلى دنا لخلية بكتيرية أخرى، ويمكن لهذا الأسلوب أن يسمح وفق المبدأ باكتساب البكتيريا لجينات وإنتاج بروتينات من متعضيات أخرى، من بينها البشر. أصبحت بذلك الهندسة الوراثية كما يشار إليها عمومًا أساسًا للتقانة الحيوية الحديثة.
تبيّن أنّ الهندسة الوراثية هي النقطة التي أقحمت التقانة الحيوية في المشهد العام، وحدّد التفاعل بين العلماء والسياسيين والعامّة العمل الذي حقّق في هذا المجال. كانت التطوّرات التقنية خلال هذا الزمن ثورية ومخيفة أحيانًا أخرى. ذكّرت عملية زرع القلب الأولى عام 1967 على يد كريستيان بارنارد العامّة بزيادة تعقيد مسألة الهوية الجسدية للفرد، فبينما كانت الصورة التخيّلية الشعرية ترى القلب دائمًا كجوهر الروح، فالآن هنالك أفق لأفراد يُعرفون بقلوب أشخاصٍ آخرين. خلال ذات الشهر، أعلن آرثر كورنبيرغ أنّ تمكّن من استنساخ جين فيروسي بالكيمياء الحيوية، وقال رئيس معاهد الصحة الوطنية الأمريكية "لقد صُنّعت الحياة". أصبحت الهندسة الوراثية الآن في الأجندة العلمية، وذلك لقدرتها على تحديد هوية الصفات الجينية في أمراض مثل الثالاسيميا بيتا وفقر الدم المنجلي.
كانت الردود تجاه الإنجازات العلمية متلوّنة بالشكوك الثقافية، حيث كان ينظر للعلماء وخبرتهم بعين الريبة، ونشر الصحفي البريطاني غوردون راتراي تيلور عام 1968 العمل ذائع الصيت، "القنبلة البيولوجية الموقوتة The Biological Time Bomb". رأت مُقدّمة المؤلّف في اكتشاف كورنبيرغ باستنساخ الجين الفيروسي سبيلًا لآفات يوم القيامة المُميتة، وحذّرت الدعاية المُبالغ بها للكتاب بأنّه خلال عشر سنين "قد تتزوّج أو تتزوّجي رجلًا أو امرأة نصف صنعي... وتحدّد جنس أطفالك... وتلغي الألم... وتغيّر من ذكرياتك... وتعيش حتى 150 سنة من العمر وذلك إن لم تدمّرنا الثورة العلمية قبل ذلك". أختتم الكتاب بفصل بعنوان "المُستقبل – إن كان هنالك مُستقبل". بينما من النادر أن يُمثّل العلم الحالي في الأفلام، في هذه الفترة من مسلسل "ستار تريك"، لكن يبدو أنّ الخيال العلمي والحقيقة العلمية يأخذان بالتلاقي. أصبح "الاستنساخ" كلمة شائعة في الإعلام، حيث هجا وودي آلين عملية استنساخ شخص من أنف في فلمه "النائم sleeper" عام 1973، واستنساخ أدولف هيتلر من خلايا ناجية كان موضوع رواية ايرا ليفين، الصبية من البرازيل The Boys from Brazil، عام 1976.
استجابة لهذه المخاوف الشعبية، ربط العلماء والصناعة والحكومات بصورة متزايدة قدرة الدنا المأشوب بالوظائف العملية الشاسعة التي وعدت بها التقانة الحيوية. من أبرز الأعلام العلمية الرئيسية التي حاولت تسليط الضوء على الملامح الواعدة للهندسة الوراثية كان جوشوا ليدربيرغ، البروفيسور الحائز على جائزة نوبل من جامعة ستانفورد. وبينما كانت تصف "الهندسة الوراثية" في الستينيّات تحسين النسل eugenics والعمل على تعديل الجينوم البشري، إلا أنّ ليدربيرغ أكّد على البحث الذي يضم الميكروبات عوضًا عن ذلك، وأكّد ليدربيرغ على أهمية التركيز على شفاء الإنسان. اقترحت ورقة ليدربيرغ البحثية عام 1963 "المستقبل البيولوجي للإنسان" بأنّه بينما قد تكون البيولوجيا الجزيئية يومًا ما قادرة على تغيير النمط الجيني البشري، "إلا أنّه ما غفلنا عنه هو تحسين النمط الظاهري euphenics، وهو هندسة تطوّر البشر". أنشأ ليدربيرغ كلمة "تحسين النمط الظاهري euphenics" للتأكيد على تغيير النمط الظاهري phenotype بعد الحمل عوضًا عن النمط الجيني genotype الذي سيؤثر على الأجيال القادمة.
مع اكتشاف كوهين وبوير لتقنية الدنا المأشوب عام 1973، تكون قد ولدت فكرة العقبات الكبرى للهندسة الوراثية على البشر والمُجتمع، كتبت مجموعة من علماء البيولوجيا الجزيئية برئاسة بول بيرغ عام 1974 لمجلّة العلم Science مُقترحة أنّ عقبات هذا العمل من المُحتمل أن تكون مُدمّرة ويجب أن يتوقّف إلى أن يُتمعّن في دراسة مُقتضياته. بُحِث في هذا الاقتراح في الاجتماع في فبراير عام 1975 في شبه جزيرة مونتري في كاليفورنيا، والخالدة دومًا بالموقع المعروف بأسيلومار، وصدر عن هذا الاجتماع النداء الذي لم يسبقه مثيل بإيقاف الأبحاث إلى أن يُصبح العمل في الهندسة الوراثية مُنظمًا بشكل لا يؤدي لقلق الحاجة العامة، وأدّى لتعليق النشاط لـ16 شهرًا إلى أن صدرت الدلائل الإرشادية الخاصة بمعاهد الصحّة الوطنية الأمريكية NIH.
كان جوشوا ليدربيرغ الاستثناء المُميّز في تأكيده، كما فعل لسنوات، على الفوائد المُحتملة. في أسيلومار، في جوّ يُفضّل الضبط والتنظيم، نشر ورقة بحثية ترد على التشاؤم والخوف من إساءة الاستعمال مع الفوائد الناتجة عن الاستعمال الناجح، وقد وصف "فرصة باكرة لتقنية ذات أهمية لا تحصى في الطب التشخيصي والعلاجي: الإنتاج السهل لتنوّع غير محدود من البروتينات البشرية. يُمكن التنبّؤ بتطبيقات مُماثلة في عملية التخمير من أجل التصنيع الرخيص للمغذيات الأساسية، وفي تحسين الميكروبات لإنتاج الصادات الحيوية ومواد كيميائية صناعية خاصة". انتهت فترة تعليق النشاط في الأبحاث لـ16 شهرًا في يونيو 1976 بنشر اللجنة الاستشارية الإدارية DAC الدلائل الإرشادية الخاصة بالـNIH للمُمارسات الجيّدة، وقد حدّدت المخاطر الناجمة عن أنواع خاصة من التجارب والظروف المادية لمُتابعتها، وكذلك قائمة بالأشياء التي يمنع إجراءها لخطورتها الشديدة. فضلًا على ذلك، يجب عدم اختبار المُتعضيات المُعدّلة خارج حدود المُختبر أو أن يُسمح لها بالوصول إلى البيئة.
دفعت الرؤية التفاؤلية لليدربيرغ بالهندسة الوراثية لتطوير صناعة التقانة الحيوية، فعلى مدى السنتين التاليتين، مع تنامي القلق الشعبي حول مخاطر أبحاث الدنا المأشوب، ازداد كذلك الاهتمام بتطبيقاته التقنية والعملية. بقي الشفاء من الأمراض الجينية في أروقة الخيال العلمي، لكن تبيّن أنّ إنتاج بروتينات بشرية بسيطة بإمكانه أن يكون تجارة جيّدة. استعمل الإنسولين، من أصغر وأفضل البروتينات وصفًا وفهمًا، في علاج الداء السكري من النمط الأول لنصف قرن، وكان يُستخرج من الحيوانات بشكل مُختلف كيميائيًا قليلًا عن المُنتج البشري، ولكن إن أمكِن إنتاج الإنسولين البشري الصنعي، يُمكن لهذا أن يلبّي الطلب الحالي لها المُنتج الذي قد يكون تأمين المُصادقة عليه سهلًا نسبيًا من المُنظّمين. مثل الإنسولين "البشري" الصنعي في الفترة من عام 1975 إلى 1977 الطموح لمُنتجات جديدة يُمكن تصنيعها بالتقانة الحيوية الجديدة، وأعلن عن الإنتاج الميكروبي للإنسولين البشري الصنعي أخيرًا في سبتمبر عام 1978 من قبل الشركة الناشئة جينينتك Genentech. رغم عدم تسويق تلك الشركة للمُنتج بنفسها، إلا أنّها أعطت ترخيص طريقة التصنيع لشركة إلاي ليلي.
كذلك شهد عام 1978 التطبيق الأول لشهادة امتياز لجين، وهو الجين الذي يُنتج هرمون النمو البشري وذلك على يد جامعة كاليفورنيا، وبالتالي ظهر المبدأ القانوني بإمكانية الحصول على براء امتياز للجينات، ومنذ ذلك الملف، مُنحت براءات امتياز لقرابة 20% من جينات الدنا البشري التي يفوق عددها 20,000 جين.
بلورات الإنسولين الصنعي المُحضرة بتقنية الدنا المأشوب
كانت النقلة الجذرية في مفهوم "الهندسة الجينية" من التركيز على الصفات الموروثة للأفراد إلى الإنتاج التجاري للبروتينات والأدوية العلاجية مدفوعة برؤية جوشوا ليدربيرغ، حيث حثّ ولعه للعلم وفوائده الطبية المُحتملة اهتماماته الواسعة منذ الستينيّات، وبمُجابهة للقوانين الصارمة، عبّر عن رؤية نحو فائدة مُحتملة، وضدّ المُعتقد بأنّ التقنيات الجديدة ستؤدي لعواقب لا تحصى ولا يُمكن السيطرة عليها في البشرية والبيئة، انبث إجماع متزايد على القيمة الاقتصادية لتقنية الدنا المأشوب.
التقانة الحيوية والصناعة
مع الجذور التاريخية في الميكروبيولوجيا الصناعية التي تعود لقرون من الزمن، ازدهرت التقانة الحيوية الجديدة سريعًا في بداية السبعينيّات، وأصبح كل تقدّم علمي جديد حدثًا إعلاميًا أعدّ لجذب ثقة الاستثمارات والدعم الشعبي، وبالرغم من أنّ توقّعات السوق والفوائد المجتمعية حول المنتجات الجديدة كانت مُبالغا بها في كثير من الأحيان، إلا أنّ كثير من الناس كانوا على استعداد لرؤية الهندسة الوراثية كتقدّم عظيم قادم في النمو التقني. مثّلت التقانة الحيوية في الثمانينيّات صناعة ناشئة حقيقية، مانحة ألقابًا لمنظمات تجارة بارزة مثل منظمة صناعة التقانة الحيوية Biotechnology Industry Organization (BIO).
لافتة طرقية برعاية شركة جينينتيك توضّح أن جنوب سان فرانسيسكو تمثل "مسقط رأس التقانة الحيوية".
كان محط الاهتمام من بعد الإنسولين منصبًا على أسواق الربح المُحتملة في الصناعة الصيدلانية: هرمون النمو البشري والإنترفيرون الذي كان واعدًا بأن يكون الشفاء السحري للأمراض الفيروسية. كما كان السرطان هدفًا أساسيًا في السبعينيّات بسبب ارتباط هذا المرض بصورة متزايدة بالفيروسات، وبحلول عام 1980 أنتجت الشركة الجديدة بيوجين Biogen الإنترفيرون عبر تقنية الدنا المأشوب، وجمع ظهور الإنترفيرون وإمكانية شفاء السرطان الأموال في المُجتمع من أجل الأبحاث وزاد الحماس في المُجتمع المُشكك والمُتردّد. فضلًا على ذلك، أضيف إلى ورطة السرطان في السبعينيّات ظهور الإيدز في الثمانينيّات، والذي أتاح سوقًا محتملة كبيرة للمُعالجة الناجحة، وأيضًا بصورة وثيقة سوقًا للفحوص التشخيصية اعتمادًا على الأضداد وحيدة النسيلة، ومع حلول عام 1988، صودق على خمسة بروتينات فقط من الخلايا المُعدلة جينيًا كعلاجات من قبل إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية (FDA): الإنسولين الصنعي، وهرمون النمو البشري، ولقاح التهاب الكبد B، والألفا إنترفيرون، ومُفعّل البلازمينوجين النسيجي TPa المُستعمل في حل الخثرات الدموية، ولكن بنهاية التسعينيّات، صودق على أكثر من 125 دواءً محضرًا بالهندسة الوراثية.
وصلت التقانة الحيوية أيضًا للواجهة في الزراعة كذلك، وبرز تقدّم هائل منذ تقديم الطماطم الحافظة للنكهة Flavr Savr tomato المعدّلة وراثيًا للسوق عام 1994. أبلغ إرنست ويونغ أنّ بعام 1998، يتوقّع بأنّ 30% من محاصيل فول الصويا في الولايات المتحدة من أصل بذور معدلة وراثيًا، وكان يتوقّع كذلك أنّ 30% من محاصيل القطن والذرة في الولايات المتحدة عام 1998 قد أنتجت بالهندسة الوراثية.
حثّت الهندسة الوراثية في التقانة الحيوية الآمال لكل من البروتينات والأدوية العلاجية والمُتعضيات البيولوجية بذاتها، مثل البذور، والمبيدات الحشرية، والخمائر المعدّلة، والخلايا البشرية المعدلة من أجل علاج الأمراض الجينية. ومن منظور الداعمين التجاريين للتقانة الحيوية، بدأت التطوّرات العلمية، والتعهدات الصناعية والدعم الرسمي أخيرًا بالتلاقي معًا، وأصبحت التقانة الحيوية جزءًا مُعتادًا في الأعمال. كما لم يعد مؤيّدو الأهمية الاقتصادية والتقنية للتقانة الحيوية يعتبرون كمعادين للعقائد، بل أصبحت رسالتهم أخيرًا مقبولة وأقحمت في سياسات الحكومات وفي الصناعة.
أنظر أيضًا